مِن أسبابِ وضعِ المُؤلّف لمَقالته حول الماليخوليا رغبتُه في تكملة كتاب روفس الإفسيسيّ (ت. 150 م؟) الذي اقتصرَ على نوع واحدٍ من هذا الدّاء (الشّراسيفيّ الذي يصيبُ فمَ المعدة)، وأغفلَ نوعين آخرَين يُصيبان الدِّماغَ حسبَ رأيه.
تنقسمُ المقالة إلى قسمين هما : « وصفُ المرض وأصنافُه وأسبابُه » و « وصفُ طرقِ علاجِه »، أي « العِلم والعَمل ». لا يفسّرُ المؤلّفُ هذه العلّةَ ماورائيّا وسِحريّا، بل يتبنّى نظريّةَ الأخلاطِ والأمزجة التي سادت في أوروبّا والعالَم الإسلاميّ لما يزيد عن ألفَي سنة، أي من أبُقراط (ت 377 ق م) إلى نهاية القرن الثّامن عشر. فيرُدّ الماليخوليا إلى تجمُّع المِرَّة السّوداء (la bile noire) وتصاعُدها إلى الدّماغ الذي يُظلم « نورُه » فيُحدث « خواطر وظنونا فاسدة ». لكنّ تجمُّع المِرّة السّوداء في البدن ليس سوى « السّبب الأدنى » لهذا المرض « العظيم » و« المخوّف ». فهناك عواملُ كثيرة تؤدّي إلى طغيان المرّة السّوداء، منها ما هو جسديّ ومنها ما هو نفسيّ. أمّا الأسبابُ الجسديّة فكثيرة ومُتناقضة، منها « المِزاجُ الرّديءُ بعد الوِلادة »، وكثرةُ الطّعامِ والشّرابِ، أو الإقلالُ منهما، أو فسادُهما وشدّةُ حرارتِهما، أو سُكنى البلدِ الحارِّ أو الباردِ، أو تركُ الاستفراغ... وأمّا الأسبابُ النّفسيّة، فمنها كثرةُ إعمالِ الفِكر والاشتغالِ بالعلوم أو شدّةُ خوفِ « النّسّاك والصّالحين » من الله، أو « شدّة تشوّقهم إليه »، وفراقُ المحبوبات بالموت...
ورغم الطّابع الخياليّ الواهم لنظريّةِ المرّة السّوداء، فإنّ في الكتاب إشاراتٌ علاجيّةٌ مرتبطةٌ بالماليخوليا كما تمَّ توصيفُها حديثا، من ذلك ذكرُ المؤلّف لشخصٍ من القيروان مُصابٍ بما أصبحَ يُسمّى بـ« مُتلازمة كوتار » أو وَهم نَفي الأعضاء، أو دِقّة وصف حالة « المانيا » التي تُسمّى وسواسا « سبُعيّا » « لأنّ أصحابَه يَثِبون وثوبَ السِّباع ».
تَرجم الكتابَ إلى اللّاتينيّة قسطنطينُ الإفريقيّ دون ذكر المؤلّف، ومع حذفِ إشارات إسحاق بن عمران إلى تجربته الخاصّة في الطّبّ. هذه التّرجمة المقتبسة تحت عنوان كتابان في الماليخوليا اعتمدت هذه التّرجمة في أوروبا لمدّة ستّة قرون.
إنّ اسْمَ الماليخوليا لم يقعْ بالحقيقة على مَعْنى هذا الدّاء، وإنما وقع على سبَبِه الأدْنى، وهو المرَّةُ السّوْداء. فأمّا نَفس الدّاء، فإنّما تُعْرف معنويّتُه بالصّفةِ والنّعْت، وذلك أنّه مرضٌ يَحُلُّ في الجسم، وتلحقُ أعراضُه وأضرارُه للنّفس.
(ص. 30)ومِنهُم من يتوهَّم أنْ لا رأْسَ له كمثل ما رأيناهُ قريبًا بمدينَة القيروان. فإنَّا ثقّلْنا رأسَه بقَلنْسُوّة عملناها له من رصاص، وجَعلْناها على رأسِه في مَحلّ الخوْذَة، فحينَئذ صحَّ عندَه أنَّ لهُ رَأسا، وكذلك حكى روفس أنّه رأى ذلك.
(ص. 49)وأنا أرى أنّ السَّراطينَ النَّهْريَّة المشْويَّة أو المطْبوخَة في ماء الشَّعير أو في الماء والملح ينفعُهم لخاصَّة لَحْم السَّرطان في نفْعِ الذُّبول والسّلّ. وأبدانُ الماليخُوليِّين من جِهَة حرقيَّتِها ويبْسِها تَحتاجُ إلى الرُّطوبَة والبَلَل، كما يحتاج أبدانُ الَمسْلولين إلى ذلك والمَهازيل النَّاقهين من الأمْراض.
(ص. 65)مخطوط دار الكتب الوطنيّة، المجموع 3634، جزء 11، رسالة 8
BNT, 3634/11/8