هُو موسوعة فريدةٌ من نوعِها فِي الخمرِ والنبيذِ وكلِّ ما يتّصل بهِمَا. ولئِن اعتمدَ المؤلّفُ تصانيفَ سابقةً مثل كتاب رُوفس فِي الشّرابِ ترجمة قسطا بن لُوقا ، وكتاب الفقيهِ القيروانِيّ مَعْمَر بن منصُور فِي تَحلِيل شرَاب النَّبيذِ ، فإنّه أراد لكتابِهِ أن يكُونَ جامعًا « جُمَلا أدرجَها المتقدّمون ولم يسطِّرُوها، وأتَوا بها فِي تضاعيفِ كتبهِم، وفرّقُوها ولم يجمعُوها، ونثرُوها ولم يؤلّفُوها. »
ورغمَ تحذير ِالمؤلّفِ من السُّكرِ والإدمانِ، فإنّه ظلَّ يَلْهَج بتعظيمِ الشّرابِ وتعدَادِ فضائلِهِ، بصفةٍ مباشرةٍ أو على لسانِ الحكمَاء والفلاسفَةِ. فـ« شُربُ الرّاحِ كيمياءُ الأفراحِ »، و « الشّرابُ دواءٌ قويّ للمحرومِين والخائِفِين والعَاشِقِين »...
ولهذه الموسوعةِ بعدٌ أدبيٌّ جليٌّ يظهرُ فِي ما اشتمَلت عليهِ « من أمثالِ الحكمَاءِ، ومنثُور العُلماء، ومنظُوم الشُّعراء، وأخبَار الأدبَاء والظُّرفَاء »، كما يظهرُ في الأشعارِ الخمريّةِ التِي رتَّبَها الكاتبُ ترتيبًا ألفبائِيّا في آخِر الكتاب. ولهَا بعدٌ تاريخيٌّ يظهرُ في تتبُّعِ الكاتبِ المؤرّخِ أخبارَ المُولَعين بالخمرةِ من العهدِ الجاهلِيّ إلى عصرِ الرّسولِ والصّحابةِ والتّابعين، وخلفاء بنِي أُميّةَ و بنِي العبّاسِ ، وأمرائِهِم ووزرائِهِم، ومن المشرقِ إلى القيروانِ . وفي الكتاب بعدٌ متعلّقٌ بالآدابِ السّلطانيّةِ، أو "مرايَا الملُوك"، فِي ما يتّصلُ بموضوع الخمرة والمُنادَمَة. وفيه مباحثُ لغويّةٌ وأتنوغرافيّةٌ تتناول أسماءَ الخمرة وأوقاتِ الشّرابِ والجلساءِ والكؤوسِ ومراحلِ السّكرِ. وفيه آراءُ طبّيّةٌ حول دور ِالشّراب في تقويةِ الحرارةِ وإدرارِ الدّمِ، وتصفيةِ الوجهِ، والمساعدةِ على الهضمِ. وفيهِ نظرةٌ كونيّةٌ طريفةٌ، جعلت المؤلّفَ يتجاوز الإطارَ العربيَّ الإسلاميَّ، ويهتمُّ بعاداتِ الرّومِ و الهندِ و الحبشةِ و الفُرسِ و اليُونانيّين و التُّركِ .
ومن أهمّ مواضيعِ الكتاب الخلافُ الفقهيُّ حول الشّرابِ المُسكرِ. وموقفُ الرّقيق هُو التّمييزُ بين الخمرةِ المُستخرجَة من العنبِ، وقد اعتبرَهَا مُحرّمةً بالنّصِّ القرآنِيِّ، والنّبيذ المستخرج من نقيعِ التّمرِ خاصّةً، وقد اعتبرَه غيرَ مُحرَّم استنادًا إلَى مرويّاتٍ كثيرةٍ تنسبُ شربَ النّبيذِ إلى الرّسولِ والصّحابةِ والتّابعين والكثيرِ من الفقهاءِ والأيمَّة. ويختمُ الرّقيق كتابَه بفصلٍ يوردُ فيهِ مرويَّات أخرى متناقضَةً مع السّابقَةِ، تُشدّدُ في تحريمِ الخمرة والنّبيذِ معًا، حتّى لا يتورّطَ "الحَدَثُ الغِرُّ، والجاهلُ الغمرُ" بما تقدمَ في الكتاب من مدحٍ للخمرةِ، واستدلالٍ على جوَازِ شُربِ النّبيذِ.
وقال بعضُهم : النّبيذُ مُستراحُ عقلكَ، ونُزهةُ قلبِك، وموضِع أنسِك، والشّرابُ مفتاحُ الحُبور، وينبُوع السّرُور، وقُطب اللّذّاتِ الذِي عليه المدَارُ، وبِهِ تحرّك جواهرُ الطّباع وتُستثار، قد جمعَ أبّهةَ الحلالِ ورشاقةَ الحرامِ، ووقّاد الماء وترياق المُدام، وهو جالبُ فراغِ النّفسِ حين اشتِغالِها، ونشاطِ العقولِ حينَ كلالِها... ولن تجدَ شيئًا يُعين هذه الحرارةَ الغريزيَّةَ ويُقوّيهَا كالنَّبِيذِ، ولن تجدَ مثله هاضِمًا للطّعامِ...
(ص. 60)وقد شربَ رسولُ اللّهِ صلّى اللّهُ عليه وسلّمَ مِن سقاية العبّاسِ، فوجدَهُ شديدًا فقطّبَ بين عينيهِ، ودعَا بذنوب من ماءِ زمزم فصبَّ عليه، وقال : إذا كانَ هكذَا فاكسِرُوه بالماء. ولو كان حرامًا لأراقَه وما صبَّ عليه من ماءٍ ثمّ شرِبه. فقد نَسخَ بشُربه الصُّلبَ في حجّة الوداع ما كان قبلَه. والدّليلُ على ذلك أنّه كان نَهَى وفدَ عبد القيس عَن شُرب المُسكِرِ، ثمّ وفدوا عليه بعد ذلك، فرآهم مصفرّةٌ ألوانُهم، سيّئةٌ حالهُم، فسألَهم عن قصّتهم، فأعلمُوه إنّهم كان لهم شرابٌ فيه قِوام أبدانِهِم فمنَعَهُم منه، ثمّ أذِنَ في شُربِهِ.
(ص. 881)ولمَعمَر فِي تحليلِ النّبيذِ كتابٌ حسنٌ يدلُّ على حِذقِهِ ومعرفتِهِ، وكانَ أخذَ تحليلَهُ عَن عبدِ اللّهِ بنِ فَرُّوخ، وكانَ عبدُ اللّهِ، علَى زُهدِهِ وورعِهِ وصيانتِهِ، يُحلّل النّبيذَ ويرَى شُربه غير مُستتر فيه.
ورُوِيَ أنّه حضرَ يوما عُرسًا بالقيروان لبعض إخوانِهِ. فلمّا أتِيَ بالطّعام، جلسَ إلى جانبِ ابنِ فرّوخ رجُلٌ مُتصوّفٌ ممّن يرَى تحرِيمَ النّبيذِ، فنظرَ إليهِ ابنُ فرّوخ، وقد أخذَ دَجاجةً مِن على المائدةِ، فلفَّهَا في منديلهِ وجعلها تحتَ المائدة، ثمّ أُتِيَ بِالنّبيذِ فدُفِعَ إلى ابن فرّوخ قدحٌ كبيرٌ فشرِبَهُ، ثمّ مُلِئَ فدُفع إلى ذلك الرَّجُلِ الذي كانَ إلى جانبِهِ، فامتَنَعَ وامتعَضَ وغضِبَ وأظهرَ كراهةً شديدةً، وقالَ : أنَا أشربُ النّبيذَ؟ فالتفتَ إليه ابنُ فرّوخ كأنّه يسارّهُ وقال : اِشرَب يا سارقَ الدّجاجةِ ! لأنّه أخذَهَا من غيرِ إِذنِ صاحبِهَا.
المتحف الإسلامي بالقاهرة
Souverain couronné, tenant une coupe et joueur de flûte. Xe siècle. Bas-relief retrouvé à Mahdia, actuellement au Musée du Bardo.
يقع الكتاب منذ تأليفه في مجلّدين، وتوجد مخطوطاته في باريس وفيّانا وبرلين والأسكريول، والمخطوطة الأكمل توجد بفيانّا. وقد صنع علي نور الدّين المسعوديّ منه مختارات توجد في المكتبة الوطنيّة مخطوطتان منه.
https://framespa.univ-tlse2.fr/accueil/pratique/annuaire/sarra-barbouchi#/