لهذا الكتاب شأنٌ غريب، فقد كان مشهورا ورائجا، ونقلتْ عنه مصادرُ كثيرة، لكنّه ضاع منذ القرن الثّامن الهجريّ، وتوقّف النّقل المباشرُ عنه، ثمّ بعثه إلى الوجود من جديد مُحقّقان تونسيَّان هما العروسيّ المطويّ و بشير البكّوش باعتماد المصادر التي نَقَلتْ تراجمُ الشّعراءِ عنه، وأهمّها الوافي بالوَفيات ل صلاح الدين الصّفديّ (ت. 1363) و« مسالك الأبْصار » لأبي فضل العُمَريّ الدِّمشقيّ (ت. 1394).
يقدّمُ هذا الكتاب الطّريفُ تراجم مائةٍ من الشّعراء الذين عاصروا ابن رشيق ، ونماذج من أشعارهم. وهم منسوبون إلى القيروان لأنّها كانت عاصمة إفريقيّة ، وبها بلاط المُعِزّ بن باديس (1016-1062) الذي استقطب الكثير من الشّعراء والأُدباء والعلماء. إلاّ أنّ شعراء ال أنموذج يتوزّعون على مدن وقرى كثيرة منها ما بقي إلى اليوم، ومنها ما اندثر، ومنها ما لم يَعُد جزْءا من خارطة البلاد التّونسيّة : تُونس و سُوسة وا سفاقس (كذا) و المَهدِيّة و قَفْصَة وقصْطِيلِية ( تُوزر حاليّا) و باجة الزّيت، وباجَة القمح، و نِفْزة ، و الأربس (مدينة خصبة كانت توجد قرب الكاف ) ورصفة ( الشّابّة حاليّا) و تَاهرْت ، و قرية بني فراس (قرب تونس )، وصدف (« على خمسة فراسخ من مدينة القيروان ») والهواريون وزويلة (رملة المهديّة) والسّعدِيّين (« جوار المهديّة »)، ونونش وزُبنّة (وهما " من كور " رصفة) و المَسِيلة و المنصُوريّة و المحمّديَّة و جرواة .... وتدلُّ أسماء الأماكن هذه على ازدهار التعليم باللُّغة العربيّة ونشاط الحركة الأدبيّة في الكثير من أرجاء البلاد.
وتكمُن طرافة الكتاب أيضا في منهج المؤلّف الذي يجمع بين ملامح شخصيّة الشاعر وسِمات شعره. وكان ابنُ رشيق يميل إلى التجديد الذي كان يُسمّيه « تَوليدًا » و« اختراعا ». يقول في ترجمة ابن حربون : « وقد تصفّحتُ جميعَ ما رأيتُ له من الشِّعر فلم أجدْهُ وَلَّدَ معنًى انفَرد به ولا زادَهُ زيادَةً توجبُهُ له ». إلاّ أنّه كان ينفُرُ من التّكلُّف والإغراق في الصّنعة.
وفي الكتاب طُرَفٌ كثيرة عن حياة الشّعراء وتنقُّلهم بين إفريقيّة و صقليّة وا لأندلس و المشرق ، وعن مُجونهم وحُبّهم للَّهْو. وهو يعكس في بعض أخباره الصّراعَ المذهبيَّ، ومقتلَ الشّيعة في سنة 407 هـ/1016م. ول ابن رشيق موقفٌ سلبيّ من الشّعراء المُتشيّعين، من ذلك قوله عن الشّاعر إسحاق بن إبراهيم : « كان رافضيًّا سَبَّابًا، عليه لَعنةُ اللهِ. وقَتَلَهُ سيّدُنا، أطالَ اللّه بقاءه، سنة عشرين وأربعمائة احتسابا... »
هذه امرأةٌ من أهلِ رصفة بِسَاحِلِ البَحْرِ... وهي شَاعِرةٌ حَاذقةٌ مَشهُورةٌ في شَبِيبتِهَا، وقد أسنَّت الآنَ وكفَّتْ عنْ كثيرٍ من ذلك... ومِنْ شِعرِهَا :
جَمعُوا بَينَنَا، فلمَّا اجتَمعْنَا فرّقُونَا بالزّورِ والبُهتَانِ
مَا أرَى فِعلَهُم اليومَ بنَا إلاّ مثل فعلِ الشّيطانِ بالإنسانِ
لَهفَ نَفسِي عليّ يا لَهفَ نفسِي منكَ إنْ بِنْتَ يا أبا مَروانَ
كانَ أبُو مَروان هَذا شَاعِرًا مِنْ أَهْلِ الأندلُسِ وكانَ يودّهَا، فظهَرَ له تَشبُّبٌ بِهاَ، فغارَ لذلك إِخوتُهَا، وفرّقُوا بينهُمَا. واشتَهَرَ أبُو مَروَان هذَا فقَتَلَهُ إِخْوتُهَا.
دَخلْتُ الجامعَ في بعضِ الجُمَعِ فوجدتُهُ في حلقةٍ يقرأُ الرّقَائِقَ والموَاعِظَ ويذكُرُ أخبارَ السّلفِ الصّالِحين ومَن بعدَهم مِن التَّابِعِينَ، وقد بَدَا خُشُوعُهُ، وترقْرَقَتْ دُمُوعُهُ. فمَا كانَ إلاَّ أنْ جِئتُهُ عشِيّةَ ذلك اليومِ إلى دَارِهِ، فوجدتُه وفي يدِهِ طُنبوُرٌ وعن يمينِهِ غُلامٌ مَلِيحٌ وقدّامهُ شرَابٌ. فقلتُ لهُ : مَا أبعدَ مَا بَينَ حَاليْكَ في مجلِسَيْكَ؟ فقال : ذاكَ بيتُ اللّهِ. وهذَا بيتِي أصْنَعُ في كُلِّ واحِدٍ مَا يَلِيقُ بِهِ وبِصَاحِبِهِ. فأمْسكْتُ عنهُ.
(ص. 255)النّمذجانيّ : كانَ شاعرًا مشتَهِرًا بالمجَانةِ سِكِّيرًا لا يَكادُ يُرَى صاحِيًا البَتَّةَ، سلكَ طرِيقَ أبي الرّقعمَق فِي التّهتُّكِ والتّهكم والتّحَامُقِ، وصحِبَهُ بمِصْر مُدّةً طوِيلةً. ثمّ رَجَعَ فاستَحْسَنَ الإقَامةَ بجزِيرةِ صِقلّيّةَ لِما فِيهَا من الشّرابِ حتَّى تُوُفّي سنةَ ثمانيةَ عشرَةَ وأربعِمائة وقدْ أسنَّ وشَاخَ.
(ص. 292)