من أشهر القصائد العربيّة قديما وحدِيثا، نظرا إلى رقّة غزلها، وجمال تعابيرها وصُورها، وبحرها الرَّاقص وهو « الخَبَبُ »، وقافيتها الدَّاليّة المضمومة وبعدها هاء مضمومة. أقبل عليها الموسيقيُّون يلحّنونها والشّعراء القدامى والمحدثون يقلّدونها تقليدا يُسمّى في نقد الشّعر « المُعارضة »، وتعني محاكاةَ شاعر لقصيدة شاعرٍ آخر في البحر والقافية والموضوع أحيانا. ومن الشّعراء مَن عارضها بالتَّخميسِ (وهو استعارةُ الشّاعر شطرا من قصيد شاعر آخر يُضيفه إلى أربعة أشطر من عنده) أو بالتّشطير (استعارةُ شطر من كلِّ بيت في القصيدِ وتَكمِلتُه بشطرٍ مُبتَدَع).
يتكوّنُ القصيدُ من 99 بيتًا، 23 منها في « النّسيب » (المقدّمة الغَزليّة) و76 في مدح الأَمير أبي عبد الرّحمان محمّد بن طاهر (ت 455 هـ/1063 م)، صاحب مُرسِية ، استرضاءً له إِثر وشايَةٍ.
يُكثّف الشاعر في النّسيب معانيَ الشّكوى الغزليّة من أحوال العاشِق : الأَرَق والبين وتمنِّي زيارة الطَّيف، والبُكاء، وطلب الوصل المُحيي للصّبِّ (العاشق) العَليل، ووصف مَحاسن المَعشوق. لَكنّهُ يختصُّ بتوليد معانٍ طريفةٍ في الغزل الفصيح، مثل نداءِ ليل العاشق كما في المواويل :
يا ليل الصّبّ متى غده | أقيامُ السّاعةِ موعدُه |
فَبَكَاهُ النَّجْمُ وَرَقَّ لَهُ | مِمَّا يَرْعَاهُ وَيَرْصُدُهُ |
أو اعتبار حُمرَة خدَّي المَعشوق دليلاً على إِراقتهِ دم العاشق :
يَا مَنْ جَحَدَتْ عَيْنَاهُ دَمِي | وَعَلَى خَدَّيْهِ تَوَرُّدُهُ |
خَدَّاكَ قَدْ اعْتَرَفَا بِدَمِي | فَعَلَامَ جُفُونُكَ تَجْحَدُهُ ؟ |
مَا أَجْوَدَ شِعْرِي فِي خَبَبٍ | وَالشِّعْرُ قَلِيلٌ جَيِّدُهُ ! |
لَوْلَاكَ تَسَاوَى بَهْرَجُهُ | فِي سُوقِ الصَّرْفِ وَعَسْجُدُهُ |
مَضْنَاكَ جَفَاهُ مَرْقَدُهُ | وَبَكَاهُ وَرَحَّمَ عُوَّدُهُ |
ومُعارضَة الشّابّي ، وعنوانها « صَفحة من كتاب الدّموع » :
غَنَّاهُ الأَمْسُ وَأَطَرَبَهُ | وَشَجَاهُ اليَوْمُ فَمَا غَدُهُ ؟ |
ومُعارضة مصطفى خريّف ومطلَعها :
العَهْدَ هَلُمَّ نُجَدِّدُهُ | فَالدَّهْرُ قَدِ انْبَسَطَتْ يَدُهُ |
يَا لَيلُ الصَّبُّ مَتَى غَدُهُ *** أَقِيَامُ السَّاعَةِ مَوعِدُهُ ؟
رَقَدَ السُّمَّارُ فَأَرَّقَهُ *** أَسَفٌ لِلبَينِ يُرَدِّدُهُ
يَا أَهلَ الشَّوقِ لَنَا شَرَقٌ *** بِالدَّمعِ يَفِيضُ مُورِّدُهُ
يَهوَى المُشتَاقُ لِقَاءَكُمٌ *** وَظُرُوفُ الدَّهرِ تُبَعِّدُهُ
مَا أَحلَى الوَصلَ وَأَعذَبُهُ *** لَولاَ الأَيَّامُ تُنَكِّدُهُ
الحُبُّ أَعَفُّ بَنِيهِ أَنَا *** غَيرِي بِالبَاطِلِ يُفسِدُهُ
كَالدَّهرِ أَجَلُّ بَنِيه أَبُو *** عَبد الرَّحمَان مُحمَّدُهُ
العَفُّ الطَّاهِرُ مِئزَرُهُ *** والحرُّ الطَّيِّبُ مَولِدُهُ
مكتبة بودليان - مخطوط مارش 144
Bibliothèque Bodleian - MS. March 144
Bodleian Library - MS Marsh 144